في إطار أعمال المنتدى الدولي بطوكيو، ألقى رئيس الجمعية الدينية لمسلمي روسيا، مفتي موسكو ألبير كرغانوف كلمة في جلسة "الاستنتاجات الرئيسية للطاولتين المستديرتين الأولى والثانية في طوكيو".

 

السادة المشاركون في المنتدى الرفيع المستوى! 

نيابة عن الجمعية الدينية لمسلمي روسيا والمجلس الاجتماعي الروسي أرحب بكم جميعًا بأحر التحيات، معربًا عن احترامي وإجلالي الصادقين متمنيًا لكم ولأحبائكم السلام والازدهار ورحمة المولى عزوجل .

 

كمشارك في الطاولة المستديرة الأولى في طوكيو يسعدني أن أؤكد أنه في ظل الظروف المعقدة المتغيرة لعالمنا المعاصر, تشكلت على الأرض اليابانية القديمة الكريمة تقاليد حميدة لعقد طاولات طوكيو المستديرة للسلام بمشاركة واسعة من القادة الدينيين والسياسيين والخبراء وممثلي المجتمع المدني من مختلف البلدان.

 

بفضل مبادرات وجهود المؤتمر العالمي "الديانة من أجل السلام"، أصبح لدينا منصة نقاشية واعدة في طوكيو لبحث قضايا تعزيز أفكار السلام, وخفض مستوى النزاعات في القارات والبلدان المختلفة, وتعزيز التعاون بين الأديان على المستوى الدولي.

 

في إطار الطاولة المستديرة الأولى للسلام في طوكيو في شهر أيلول عام 2022 ناقشنا أن العالم المعاصر أدرك فهمًا جوهريًا بأن الشرط الأهم لاستمرار وتطور الحضارة الإنسانية هو استدامة العلاقات الإنسانية, والتفاهم المتبادل, وتعاون الفاعلين الدوليين على أساس مبادئ الاحترام المتبادل, والعدالة, ورفض العنف, والقضاء على العنصرية, والتمييز العرقي, وكره الأجانب, وما يرتبط بها من تعصب .

 

ما زالت ذكرى نقاشاتنا السابقة واجتماعنا مع إمام وخطيب مسجد طوكيو  محمد رفعت شينار ومجتمع المسلمين حية في أطيب الذكريات .

 

هذه القضايا المطروحة للنقاش مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالواقع. إن الممارسة الحوارية حول صنع السلام والشؤون بين الثقافات وتناغم العلاقات بين الأديان على المستويين الدولي والإقليمي تكتسب أهمية ملحة, واستثنائية في الظروف الراهنة. إن محتوى واستنتاجات نقاشاتنا في طوكيو في شهر أيلول عام 2022 تحمل أهمية وفائدة كبيرة في اتجاهات متعددة.   

                                                             

أود أن أؤكد وأصوغ ما سبق كأحد القوانين الموضوعية المتعاظمة لتطور العالم المعاصر ألا وهي تعزيز دور العامل الديني والإيمان والروحانية على المستويات العالمية والإقليمية والمحلية وازدياد وزن القضايا بين الأديان والإنسانية في التواصل الدولي , هذا أحد الاستنتاجات الرئيسية لنقاشاتنا السابقة.  ينبغي الاتفاق مع كلمات قداسة بطريرك موسكو وسائر روسيا كيريل الذي قال: «المجتمع المحروم من المنظور الديني ومن تصور المعايير الأخلاقية المطلقة محكوم عليه حتمًا بالتدهور». 

 

في الظروف الراهنة للتدهور الروحي الملحوظ يصعب تخيل تطور منظومة العلاقات الدولية برمتها دون فهم دور الكنيسة والأفكار الدينية في تشكيل رؤية العالم وممارسات سلوك شعوب الأرض. في عالم متغير يغدو واضحًا بشكل متزايد أن مفهوم الفضاء الدولي العلماني الذي يستبعد الحضور المؤسسي للأديان التقليدية العالمية في العلاقات الدولية لم يعد يستجيب لتحديات العصر. 

 

يمكن القول إن الإيمان والروحانية والقضايا الإنسانية تسعى لاحتلال مكانة لائقة في منظومة العلاقات الدولية المعاصرة. في هذا السياق من اللافت أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ذكر في كلمته بمناسبة رئاسة روسيا لمجموعة بريكس في يوم 1 من شهر كانون الثاني عام 2024 ضمن أولويات تطوير الشراكة: «تعزيز التفاعل في مجالات العلوم والتكنولوجيا المتقدمة والصحة والبيئة وكذلك في مجالات الثقافة والرياضة وتبادل الشباب وعبر منظمات المجتمع المدني». نرى هنا كيف يقدر رئيس الدولة الروسية  دور الحوار بين الحضارات والتعاون الإنساني ومشاركة الرأي العام الواسع في تطوير التواصل الدولي.

 

تؤكد نقاشات طوكيو أن الأديان العالمية نفسها تمتلك إمكانات قوية لتعزيز السلام وخفض مستوى النزاعات وتناغم العلاقات بين الأديان والقوميات وترسيخ الأسس الروحية والأخلاقية وتقاليد الحياة الشعبية ووحدة المجتمع وتعزيز الدولة. 

 

دين الإسلام العالمي هو أساس الحضارة الإسلامية ويحتوي على إمكانات شرعية واجتماعية وروحية أخلاقية وتعبوية وتكاملية كبيرة من أجل التنمية السلمية للأمة الإسلامية العالمية. في هذا الصدد يجب الإشارة إلى التعاظم المستمر لأهمية حركة التقارب بين المذاهب الإسلامية والدور الإيجابي للمجلس الاستشاري الأعلى للتقريب بين المذاهب والجمعية الدولية للتقريب بين المذاهب والمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية.

 

يجب إيلاء اهتمام متواصل لقضايا التعليم الإسلامي والعلماني، وتعزيز دور العلماء في الوسط الإسلامي، وتقليص المسافة القائمة بين المؤمنين وأهل العلم من دارسي القرآن والسنة، والنخبة الإسلامية المثقفة, فهؤلاء هم حراس العلم وحملة المعرفة التي أنزلها الله تعالى لهداية البشر، وهم الأقدر على خوض الحوار الديني الداخلي. قال الله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾. (النحل: 43). وقال محمد بن سيرين رحمه الله: «إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم». إن إحياء المدرسة الإسلامية المحلية (الوطنية) العريقة، التي تزود المؤمنين بالعلوم الشرعية الأصيلة والقيم الإسلامية الراسخة، وتتمكن من خوض حوار مذهبي رفيع المستوى، يُمثّل أولوية حيوية لنا جميعا.

 

من اللافت أن العالم الإسلامي نفسه يسعى لتعزيز التضامن وخفض مستوى النزاعات, ففي 18 من شهر آذارعام 2025 اختتمت في مكة المكرمة المؤتمر العالمي لتحسين العلاقات بين مدارس الفكر الإسلامي ووضع علماء الإسلام والمفتون على إثره مبادئ توجيهية موحدة لتقريب المذاهب. عُقد المؤتمر تحت رعاية رابطة العالم الإسلامي حيث اتفق المشاركون على تجاوز النقاشات العقيمة التي قد تؤدي لخطاب مهين يتسبب بدوره في التشرذم والانقسام داخل الأمة.

 

يجب أيضًا التوقف عند حقيقة بالغة الأهمية لإرساء السلام، وهي أن مسألة العلاقات بين المذاهب في المرحلة التاريخية المعاصرة لم تعد تحمل أبعادًا معرفية وفكرية فحسب، بل أصبحت ذات مغزى اجتماعي سياسي بالغ الأهمية للأمة الإسلامية, وقد شهدت الفترة الأخيرة تصاعدًا وتعزيزًا للتضامن الإسلامي إزاء قضية نضال فلسطين من أجل تقرير المصير.

 

ففي يوم 11 تشرين الثاني عام 2023 عُقد في الرياض مؤتمر مزدوج لبلدان جامعة الدول العربية  ومنظمة التعاون الإسلامي خُصص للنزاع في قطاع غزة وتصعيد التوتر في منطقة الشرق الأوسط حيث يمكن اعتبار عقد مثل هذا الحدث الضخم والممثل بمثابة تعبير عن تضامن الدول العربية والإسلامية مع بعضها ومع شعب فلسطين. 

 

جاء في الإعلان المشترك لـجامعة الدول العربية و لمنظمة التعاون الإسلامي الصادر ختامًا للمؤتمر: «ندين العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وجرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل وقتل الأطفال والنساء والصحفيين والاعتداءات على الكوادر الطبية... ونطالب مجلس الأمن الدولي باتخاذ قرار ملزم بوقف العدوان الإسرائيلي والحد من الأنشطة الاستيطانية». 

 

يمكن القول أن العالم الإسلامي  قد أعلن تضامنه مع فلسطين, ودعمه الثابت للشعب الفلسطيني في كفاحه البطولي الطويل من أجل الحرية والاستقلال، وحافظ على هذا الموقف الثابت في ظل الأحداث والتطورات الأخيرة في الشرق الأوسط بمشاركة إسرائيل.

 

نحن المسلمين الروس نعتقد أنه يجب تنفيذ قرارات الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين، وأن تحظى فلسطين بدولتها وعاصمتها القدس، وهذا سيجلب السلام المنشود إلى الشرق الأوسط. 

بالاستناد إلى إمكانات الإسلام، على مسلمي الدول المختلفة توحيد جهودهم وتضامنهم في تشكيل رؤيتنا المشتركة حول جوهر العولمة المعاصرة، وفهم هويتنا الحضارية الإسلامية وذاتيتنا، وإدراك أهداف ومهام التطور الاستراتيجي للأمة الإسلامية العالمية في الظروف الراهنة، وتشكيل صورة إيجابية للإسلام والمسلم، ومكافحة الإسلاموفوبيا. 

واجبنا المشترك هو الحفاظ على تقاليد التعايش السلمي والاحترام المتبادل بين الأعراق والأديان وتطويرها، والسعي لتناغم العلاقات بين الأديان، ومتابعة الحوار الديني والثقافي حول مشاكلنا المشتركة الملحة على المستوى الدولي. 

 

لقد راكمت الجمعية الدينية لمسلمي روسيا خبرةً معينة في الدبلوماسية العامة مع الشركاء الأجانب لتعزيز قيمنا ومصالحنا. وتشهد على ذلك حصول الجمعية على صفة استشارية خاصة لدى المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة، والمشاركة المتكررة لرئيس الجمعية في اجتماع مجموعة "حوار دارتموث" الروسية الأمريكية. ولنا خبرة في المشاركة الفاعلة في منتديات منظمة الأمن والتعاون في أوروبا ، ومؤتمرات على المستويين الأوروبي والأوراسي. 

 وقد تم مؤخرًا توقيع "اتفاقية تعاون بين الجمعية الدينية لمسلمي روسيا ورابطة العالم الإسلامي"، ونحافظ على الاتصالات مع منظمات دينية ومجتمعية أجنبية في عدة دول لمناقشة قضايا الثقافة الإسلامية وحقوق المؤمنين، ومنع كراهية الأجانب والإسلاموفوبيا، والتمييز على أساس الدين أو القومية, وفي هذا الصدد يمكن الإشارة إلى زيارتنا الدينية المجتمعية إلى إندونيسيا، ومشاركة وفدنا الروسي الديني في المؤتمر الدولي لحوار الأديان من أجل السلام في العاصمة اليابانية طوكيو  شهر ايلول عام 2022

 

ويظل تعزيز العلاقات التقليدية مع منظمات آسيا الوسطى والقوقازأولوية في عملنا.

 

 ندعو إلى تحقيق السلام مع أوكرانيا بالشروط والكيفية التي تتناسب مع المصالح الوطنية وأمن الشعب الروسي. 

حيث تدرك المنظمات الإسلامية أن الحوار وثقافة الحوار الراسخة تعزز التفاهم المتبادل، وتقوي التعاون، وتخفف التوتر والصراع في العلاقات المجتمعية بين أتباع الديانات والقوميات المختلفة داخل بلدنا وخارجه. 

 

ينبغي على الساسة والدبلوماسيين المحترفين اليوم أن يُقّدروا الأهمية المتزايدة للحوار بين الأديان، والنهج السلمي في حل النزاعات، ودور القادة الدينيين ضمن الجهود المشتركة لتسوية الصراعات ووقف العنف، وتعزيز المصالحة وإعادة إعمار السلام في الدول المتضررة من الحروب والصراعات. كلُّ ذلك ينصهر عضوياً في تطوير العلاقات الخارجية الرسمية والتعاون الإنساني الروسي.

 

ولا بد من التذكير بأن خلف القادة الدينيين تقف مصالح ملايين المؤمنين، مما يعزز بشكل كبير القاعدة الاجتماعية ومتانة السياسات الحكومية المنفذة.

 

السادة المشاركون في المنتدى الرفيع! 

في الواقع الجيوسياسي الراهن، تدافع روسيا بحزم وتصميم -عسكريًا ودبلوماسيًا وبوسائل أخرى - عن حقها في التطور الروحي الأخلاقي المستقل الأصيل، وهويتها الحضارية الثقافية، وتحمي قيمها التقليدية, وفي نفس الوقت تسعى روسيا بنشاط لمستقبل مشترك متكافئ لجميع الدول.

 

في 11 تشرين الثاني 2024، قال رئيس الدولة الروسية في الجلسة العامة للمنتدى الدولي "ترابط العصور والحضارات أساس السلام والتنمية" الذي عقد في عشق آباد عاصمة تركمانستان: «نحن مقتنعون بأن السلام الشامل والتنمية المستدامة لا يمكن ضمانهما إلا على أساس مراعاة رأي كل شعب، واحترام حق كل دولة في مسارها السيادي، ورؤيتها للعالم، وتقاليدها ومعتقداتها الدينية». يصعب عدم الاتفاق مع قول القائد الروسي حيث روسيا تقدم في هذا الصدد مثالاً يُحتذى به .

 

يجب الإشارة إلى أن تاريخ تطور روسيا نفسه يشكل عامل جذب قوي للرأي العام الأجنبي و يمكن القول إن التطور المكاني الإقليمي لروسيا على مر القرون تم مع الحفاظ على الشعوب الأصلية، وإيمانها، ولغتها، ونمط حياتها الشعبي، وعاداتها وتقاليدها. 

 

الوحدة التاريخية لشعوبنا صمدت أمام جميع الاختبارات، والتنوع العرقي الديني في روسيا اليوم هو فخرنا وأساس وحدتنا، وسمة مميزة للحضارة الروسية , وتجربتنا التاريخية الروسية في تطوير نموذج مستقر للعلاقات بين الأديان والقوميات  في مجملها وتفاصيلها  تثير اهتمامًا كبيرًا للدول الأجنبية. 

 

أنا مقتنع بأن للعالم المعاصر طريق واحد طريق تعزيز الإيمان وخلاص الروح، والاعتماد على القيم الروحية الأخلاقية التقليدية، وإعادة بناء الحياة الدولية سلميًا، وتشكيل هيكل عالمي جديد عادل متعدد الأقطاب ديمقراطي، ونظام أمني واحد غير قابل للتجزئة. 

 

هذا هو المسار الذي تسلكه روسيا المعاصرة ذات السيادة. 

 

أعرب عن ثقة راسخة بأن بدعمنا المشترك، ستكتسب طاولة طوكيو المستديرة للسلام زخمًا متعاظما، وستصبح منصة دولية جديدة مرموقة للحوار الدولي المنتظم وتعزيز الحركة الدولية المجتمعية الحكومية لصنع السلام. 

 

أتمنى لكم جميعًا مناقشة ناجحة ومثمرة لأجندتنا، وأدعو لكم بالصحة والسعادة والنجاح في الحياة.  

حفظكم الله تعالى!

شكرا لانتباهكم !